المياه... أزمة تهدد الشرق الأوسط

في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، في أيام السومريين، كانت هناك مشكلة طال أمدها بين مدينتي لكش وأومة، حول الأراضي الزراعية. كانت أومة لا تستطيع أن تدفع إيجار الأراضي التي كانت تزرعها، فعمدت لكش إلى تغيير مسار مياه النهر، ما أدى في النهاية إلى حرب بينهما. انتهت تلك العداوة باتفاق بشأن تقاسم المياه قد يكون الأول من نوعه في تاريخ البشرية. أما الآن وقد مضت آلاف من السنين على تلك الأحداث، بدأ الماء يظهر في نفس المنطقة كبضاعة مثيرة للمشاكل.

يقع الشرق الأوسط منذ أكثر من سبع سنوات ضمن منطقة جفاف وأدى التغير المناخي إلى زيادة الطين بلة، وباتت الخلافات حول السيطرة على مياه دجلة والفرات مثالاً صارخاً على أزمة المياه في الشرق الأوسط، في حين أن النهرين يمثلان مهد ميسوبوتاميا القديمة ومصدر ازدهار الأرض والحياة في المنطقة.

ينبع النهران من جنوب شرق تركيا، ويبعد منبعا النهرين 80 كيلومتراً عن بعضهما البعض.

يبلغ طول نهر دجلة قرابة 1900 كيلومتر، يقع 400 كيلومتر منه ضمن جنوب شرق تركيا، ثم ينعطف قليلاً ليمر بالأراضي السورية لمسافة 32 كيلومتراً، أما المسافة المتبقية من طول النهر فتقع ضمن الأراضي العراقية.

مسار نهر الفرات أكثر تعرجاً من مسار دجلة، ويبلغ طول نهر الفرات 2800 كيلومتر، يسير الفرات أولاً باتجاه غرب تركيا ثم ينحدر جنوباً، وبعد أن يقطع 1300 كيلومتر داخل الأراضي التركية، تصب مياه الفرات في الأراضي السورية التي تحتضن 700 كيلومتر من طول النهر، ويمثل العراق الأرض الأخيرة التي يمر الفرات عبرها ليلتقي بنهر دجلة ثم يصبا معاً في الخليج.

ألحقت خمسون سنة من إقامة البنى التحتية المائية والطاقوية، ثم التغييرات المناخية، فتنامي الحروب والمواجهات، وهي الأسوأ، الضرر الكبير بهذين النهرين وبالأراضي الزراعية التي تقع على ضفافهما.

في 11 تموز، وخلال جلسة مجلس الأمن الدولي حول تهديدات التغيرات المناخية، أعلن وزير الموارد المائية العراقي، حسن الجنابي، أن "التغيرات المناخية وتراجع مصادر المياه قضيا على إنتاج الأراضي (الزراعية) وجعلاها أراضي مقفرة لا يمكن لأحد الاعتماد عليها كمصدر لقوته".

شحة المياه مشكلة تشمل جميع المجتمعات وكل المنطقة ومن المحال عزلها عن العلاقات والصراعات الداخلية والإقليمية. يحاول كل من تركيا، سوريا، العراق وإيران من جانبه فرض سيادته على مصادر المياه في بلده، لكن غياب ستراتيجية شاملة لدجلة والفرات والأحواض المائية، ينذر المنطقة بأزمة وشيكة.

تريد الحكومة التركية من خلال مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) إحداث تغيير كبير في جنوب شرق تركيا، وهذا هو المشروع الأكبر والأكثر كلفة في تاريخ تركيا، ويضم بناء 22 سداً و19 مركزاً لإنتاج الطاقة الكهربائية، مع مشاريع إروائية تغطي مساحة 1.7 مليون هكتار من أراضي تسع محافظات تركية.

يعد سد إيليصو المركز والحجر الأساس لمشروع شرق الأناضول، ويقوم على نهر دجلة عند الحدود بين محافظتي ماردين وشرناخ، ويستطيع تخزين 10.4 مليار متر مكعب من الماء على مساحة 313 كيلومتراً مربعاً، وفي حال إكمال سد إيليصو، سيكون مصدراً رئيساً للطاقة الكهربائية من المقرر أن ينتج 3800 ميغاواط في الساعة.

في مطلع شهر حزيران المنصرم، أوقفت الحكومة التركية ملء خزان إيليصو، بناء على طلب من حكومة العراق الذي يعاني من شحة المياه، حيث وافقت أنقرة على التوقف موقتاً عن ملء الخزان والسماح بتدفق كمية المياه الضرورية للأجزاء الجنوبية من نهر دجلة.

وأعلن السفير التركي ببغداد، فاتح يلدز، حينها، أن قرار رفع الحاجز الذي يمنع تدفق مياه نهر دجلة يدل على أننا نضع احتياجات جيراننا فوق احتياجاتنا.

من جهة أخرى، يعد نهر الفرات المصدر الرئيس للمياه السطحية في سوريا، حيث يوفر قرابة 70% منها.

وكان الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، يستخدم الماء وسيلة للحصول على مكاسب سياسية، فعندما تولى الأسد الأب السلطة في العام 1970 دعا إلى الإكتفاء الذاتي من الإنتاج الزراعي، فكان أن 90% من ماء سوريا كان يستغل في العام 2000 في الزراعة.

لكن سياسة الأسد الأب تلك، كان لها الدور الرئيس في اقتراب سلطة الأسد الإبن، بشار، من السقوط التام. فسنوات الجفاف المتتالية منذ التسعينات، أدت إلى تراجع الإنتاج الزراعي، وأدت في بعض المناطق إلى هلاك 85% من الأغنام والماشية وهجرة جماعية إلى مناطق سورية أخرى. ففي أواخر العقد المنصرم، هاجر 1.5 مليون شخص من المناطق الريفية إلى المدن، ويشير المحللون إلى أن شحة المياه كان لها أثر كبير على ارتفاع عدد سكان المدن، وارتفاع نسب البطالة وتراجع مستوى الناتج المحلي الإجمالي في سوريا، وكان لكل هذا دور رئيس في ظهور الصراعات والخلافات الاجتماعية والإقتصادية.

استمر الصراع على الماء على مدى سبع سنوات من الحرب الأهلية السورية، وتحاول الفصائل المختلفة السيطرة على مصادر المياه لاستخدامها كسلاح في الصراع، وفي آذار 2017 اتهمت الأمم المتحدة دمشق بتعمد قصف مصادر المياه معتبرة ذلك جريمة حرب، بينما يتهم النظام السوري فصائل المعارضة بتسميم مصادر المياه.

ومنذ سيطرة تنظيم داعش على سد الطبقة على نهر الفرات، قطع تدفق مياه السد إلى مدينة حلب التي سيطرت عليها القوات الموالية لنظام الأسد في كانون الأول 2016، ويشير مركز ستراتفور الأمريكي في تقرير له في العام 2015 إلى "صحيح أن تنظيماً كداعش يستهدف حقول النفط والغاز في العراق وسوريا، لكن إذا دققنا النظر في تحركات هذا التنظيم، نجد أن دجلة والفرات كان لهما دور جوهري في مخططاته".

من جانب آخر، يتهم المتنفذون في كوردستان سوريا الحكومة التركية بخفض تدفق مياه نهر الفرات إلى المناطق الكوردية في سوريا، ويتوقع مزارعو محافظة الحسكة أن يحصدوا أقل إنتاج للحنطة خلال نصف القرن الأخير، وهذا يهدد بنقص في الحبوب بسوريا.

أما العراق، فإنه يعول بصورة رئيسة على المياه التي تقع منابعها خارج حدوده، في وقت يستخدم فيها كميات من المياه تفوق ما تستخدمه جارتاه، سوريا وتركيا، والسبب هو البنية التحتية المائية والإروائية والزراعية التي بقيت ضعيفة ومتأخرة نتيجة عقود من الحروب.

يوفر نهرا دجلة والفرات قرابة 70% من مياه العراق، وقد بدأت الحكومة العراقية في خمسينات القرن المنصرم بمشاريع لإنشاء سدود وقنوات إروائية، وكان سد دوكان أول تلك السدود.

استخدمت حكومة بغداد، على غرار سوريا، المياه كأداة للحرب. فقد شق نظام صدام حسين عدداً من القنوات المائية لتجفيف الأهوار الشهيرة في جنوب العراق والتي كانت مصدر المعيشة لمعارضيه، وفي مرحلة ما بعد نظام صدام حسين، حاولت الحكومة العراقية التخلص من هذه الكارثة البيئية والثقافية، لكن مشاريعها جوبهت بصعوبات نتجت عن مشروع جنوب شرق الأناضول.

في صيف هذا العام، منعت وزارة الزراعة العراقية بصورة موقتة زراعة حبوب كالشلب والذرة والسمسم وعباد الشمس "لعدم توفر المياه اللازمة لزراعة هذه المحاصيل". كما أدى نقص المياه ومشاكل خدمية أخرى، في هذا الصيف، إلى انطلاق مظاهرات في محافظة البصرة مالبث أن انتشرت في سائر محافظات جنوب العراق.

وبخصوص إيران، لا يمر أي من نهري دجلة والفرات عبر الأراضي الإيرانية، لكن هذا البلد جزء من حوض مائي أوسع، فنهرا الزاب الصغير وسيروان ينبعان من إيران ليصبا في إقليم كوردستان ثم في نهر دجلة، والمناطق الرطبة من جنوب العراق تعتمد على مياه دجلة، في وقت تعاني فيه إيران أزمة مياه شاملة.

بعد ثورة العام 1979، سعت إيران مثل سوريا إلى الاكتفاء من حيث الإنتاج الزراعي، وقد نجحت في ذلك إلى حد ما، وأعلنت وزارة الزراعة الإيرانية في حزيران المنصرم أن البلد لن يستورد القمح هذه السنة، لكن كان لهذا الاستقلال الزراعي ضريبته الثقيلة.

تعتمد إيران بصورة رئيسة على المياه الجوفية وهي مصدر يمضي نحو النضوب، وقد جف نهر (زايندرود) في وسط إيران، وفي شمال الغرب خسرت بحيرة أورمية التي تعد كبرى بحيرات المياه المالحة في العالم، 95% من مياهها، وكانت 30% من تلك الخسارة على مدى 80 سنة مضين.

كما جفت بحيرة هامون على الحدود بين إيران وأفغانستان، ويتهم مسؤولو حكومة كابول إيران بدعم حركة طالبان التي توجه ضربات إلى السدود المقامة على نهر هلمند الذي يعتبر المصدر الرئيس لمياه بحيرة هامون.

أدى جفاف آبار المياه والنقص في مياه الشرب إلى استياء أبناء إيران، ويوجه المواطنين اللوم إلى حكومة بلادهم ويتهمونها بالعجز في مجال إدارة الموارد المائية للبلد، وأدت تظاهرات احتجاجية بسبب نقص المياه إلى أعمال عنف في هذا الصيف.

ليس أمام إيران الكثير من الوقت لحل أزمة المياه، وتحاول حكومة طهران تحلية مياه الخليج، لكن هذا الخيار مكلف كما أنه لا يمكن أن يستمر فترة طويلة. كما أقامت إيران السدود في المناطق الغنية بمصادر المياه.
السدود الإيرانية على نهري الزاب الصغير وسيروان لها آثار سلبية على توفر المياه في إقليم كوردستان، وهناك سبع اتفاقيات مائية بين إيران والعراق، لكن لا يشير أي من تلك الاتفاقيات إلى النهرين المذكورين، في حين أنهما مهمان لتوفير المياه لإقليم كوردستان ولتغذية نهر دجلة في وسط العراق على حد سواء.

تدار مشاكل المياه في أيامنا هذه وفقاً لمعاهدة العام 1997 للأمم المتحدة حول مجاري المياه، لكن 39 دولة فقط وضعت تواقيعها على تلك المعاهدة، التي تلزم الدول باحترام الحصص المائية لدول الجوار وعلى توزيع مصادر المياه بالتساوي، والعراق وسوريا من بين الدول الموقعة على المعاهدة التي لم توقع عليها تركيا وإيران.

هناك اتفاق متعدد الأطراف لتقاسم المياه بين تركيا وسوريا والعراق، لكن ليس ثم أي اتفاق في الآراء حول المياه المشتركة بين هذه الدول، بل دأب كل على إلقاء اللوم على الآخرين بخصوص مشاكل المياه.

تمثل السدود جزءاً مشهوداً من الستراتيجية المائية لهذه الدول، في حين تصر كل واحدة من هذه الدول على الاستحواذ على أكبر كمية من المياه، ويحذر الخبراء من أنه لا يمكن اعتبار السدود خياراً ثابتاً من الناحية البيئية، فهذه السدود تلحق الضرر بالجزء الواقع أدنى منها وبالبحار، لأن تخفيف نسبة الملوحة في البحار يعتمد أساساً على مياه الأنهار التي تصب فيها.

وتؤدي السدود وخزانات المياه إلى خسارة للمياه أيضاً، فقد انخفض منسوب مياه الفرات إلى النصف على مدى 50 سنة، والسبب هو تبخر 32% من مياه السدود المنصوبة على النهر، في حين أن هناك ثقلاً زراعياً كبيراً عليه.

ويؤدي تغير المناخ إلى انخفاض نسبة الأمطار في عموم الشرق الأوسط وارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى تسريع تبخر مياه تلك الأنهار والسدود، أي أن الوضع سيزداد سوءاً.

ويرى المهندس الأستاذ في جامعة كوردستان – أربيل، علي حسنالي أن "النظام الطبيعي طرأ عليه تغيير"، ويرى حسنالي أن دول الشرق الأوسط هي من بين الدول التي "اتخذت أقل الاستعدادات لمواجهة التغييرات المناخية، وهذه مشكلة كبرى".

لكن كل هذا لا يعني أن الآمال قد ولت، بل هناك إمكانية لإدارة أزمة المياه، على أن تتعاون الحكومات في مجال تقاسم المياه واستخدامها بناء على فهم طبيعة عمل النظام الطبيعي. لذا يؤكد البروفسور حسنالي على أن منطقة الشرق الأوسط، رغم كونها تواجه أزمة مياه "فهذا لا يعني أننا لن نتمكن من إدارة الأزمة، وإذا استطعنا إدارة الأزمة فلا شك أننا سنتغلب على كثير من المشاكل.